تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 289 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 289

289 : تفسير الصفحة رقم 289 من القرآن الكريم

** وَإِذَا مَسّكُمُ الْضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً
يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ولهذا قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة فذهب هارباً فركب في البحر يدخل الحبشة فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده فقال عكرمة في نفسه والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك علي عهد لإن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يدي محمد فلأ جدنه رؤوفاً رحيماً, فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} أي نسيتم ما عرفتم من توحيده وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له {وكان الإنسان كفور} أي سجيته هذا ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.

** أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى {إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندن} وقد قال في الاَية الأخرى {وأمطرنا عليهم حجارة من طين} وقال {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعملون كيف نذير} وقوله {ثم لا تجدوا لكم وكيل} أي ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.

** أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىَ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً
يقول تبارك وتعالى {أم أمنتم} أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر وخرجوا إلى البر {أن يعيدكم} في البحر مرة ثانية {فيرسل عليكم قاصفاً من الريح} أي يقصف الصواري ويغرق المراكب قال ابن عباس وغيره: القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها وقوله: {فيغرقكم بما كفرتم} أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله: {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيع} قال ابن عباس نصيراً وقال مجاهد نصيراً ثائراً أي يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة ولا نخاف أحداً يتبعنا بشيء من ذلك.

** وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
ويخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكلمها كقوله تعالى {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه, وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية {وحملناهم في البر} أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضاً على السفن الكبار والصغار {ورزقناهم من الطيبات} أي من زروع ثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل} أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استدل بهذه الاَية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدينا يأكلون منها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا الاَخرة فقال الله تعالى «وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان» وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه, وقد روي من وجه آخر متصلاً. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالت يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الاَخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان» وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن عن عبيدة بن علاق سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال «إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم وجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويتزوجون النساء ويركبون الدواب ينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئاً فاجعل لهم الدنيا ولنا الاَخرة فقال الله عز وجل: «لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن بشر بن شغاف عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم» قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال «ولا الملائكة, الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر» وهذا حديث غريب جداً.

** يَوْمَ نَدْعُواْ كُلّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـَئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَـَذِهِ أَعْمَىَ فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَىَ وَأَضَلّ سَبِيلاً
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم, وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة بنبيهم وهذا كقوله تعالى {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} الاَية وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد لكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} وقال تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه} الاَية ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل الكفر اتئموا بأئمتهم كما قال {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} وفي الصحيحين «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت» الحديث وقال تعالى {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون} وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها كقوله تعالى {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} وقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} ولكن المراد ههنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولذا قال تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم} أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب قراءته كقوله: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه ـ إلى قوله ـ وأما من أوتي كتابه بشماله} الاَيات, وقوله تعالى {ولا يظلمون فتيل} قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة. وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً في هذا فقال: حدثنا محمد بن يعمر ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا, وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ويراه أصحابه فيقولون أعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم اخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا» ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه, وقوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} الاَية, قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد {ومن كان في هذه} أي في الحياة الدنيا {أعمى} أي عن حجة الله وآياته وبيناته {فهو في الاَخرة أعمى} أي كذلك يكون {وأضل سبيل} أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذاً بالله من ذلك.

** وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً
يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه, وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار, وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره, وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها, صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.